دبي
1 Feb, Saturday
25°C

«ديب سيك» هل يقلب المعادلة.. الصين تبتكر وأمريكا تحاكي؟!

أضاءت موجة من الفرح والفخر الإنترنت في الصين الأسبوع الماضي، فكما أظهر انتصار «جوجل ديب مايند» على أقوى لاعب صيني «Go» عام 2017 براعة الغرب في الذكاء الاصطناعي، تم الاحتفاء بإطلاق «ديب سيك»، نموذج الذكاء الاصطناعي الذي تصدر عالمياً في الاستدلال المنطقي، كنجاح مبهر للصين.

ووصف أحد المديرين التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا الصيني نموذج «ديب سيك»، الأذكى والأقل تكلفة بأنه «إنجاز علمي وتكنولوجي سيشكل مصيرنا الوطني»، بينما قال آخر إن الشركة الناشئة أصبحت لاعباً رئيسياً في «فريق أفنجرز الصيني لتقنيات نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة»، الذي سيواجه هيمنة الولايات المتحدة في هذا المجال.

لكن فرح الصين جاء مصحوباً بألم لعدة شركات تكنولوجيا أمريكية عملاقة، حيث تساءل المستثمرون عما إذا كان اختراق «ديب سيك» يقوض مبررات إنفاقهم الضخم على بنية الذكاء الاصطناعي.

وخسرت أسهم التكنولوجيا والطاقة الأمريكية تريليون دولار من قيمتها السوقية يوم الاثنين الماضي، رغم استعادة بعض الخسائر لاحقاً في الأسبوع.

ولا تزال الصورة النمطية السائدة عن الصين في الخارج تتخيلها كاقتصاد تصنيع تدعمه الدولة، وكثافة رأس المال، ويتفوق في إنتاج أجهزة رائعة منخفضة التكلفة، مثل الهواتف الذكية والألواح الشمسية والمركبات الكهربائية.

غير أن الواقع يختلف كثيراً، إذ أصبحت الصين منذ فترة طويلة قوة عظمى في البرمجيات، وتفوقت على الغرب في التجارة الإلكترونية والخدمات المالية الرقمية، وقد استثمرت بشكل ضخم في الذكاء الاصطناعي أيضاً.

وأدى ظهور شركة «ديب سيك» لإرباك العديد من الأفكار النمطية البالية حول الابتكار في الصين، رغم أنها بعيدة كل البعد عن كونها نموذجاً للشركات الصينية التقليدية. ونجاحها يدحض المقولة السائدة بأن «الولايات المتحدة تبتكر، والصين تقلد، وأوروبا تضع اللوائح التنظيمية».

وتشبه «ديب سيك» في جوانب عدة شركات وادي السليكون الناشئة، حتى لو لم يتم تأسيسها في مرآب.

وأطلقت الشركة عام 2023 بالطموح العالي نفسه مثل «أوبن إيه آي» و«جوجل ديب مايند» لتحقيق ذكاء اصطناعي بمستوى بشري. إلا أن مؤسسها ليانغ وينفينغ يدير أحد أكبر صناديق التحوط في الصين، ما يعني أن الشركة لم تكن بحاجة لجمع تمويل خارجي.

وكشف ليانغ، في مقابلة أعادت نشرها النشرة الإخبارية «تشاينا توك»، عن أن شركة «ديب سيك» تعمل بمنهجية أقرب إلى المختبر البحثي منها إلى المؤسسة التجارية.

موضحاً أن الشركة تتبنى نهجاً مختلفاً في التوظيف، حيث تعطي الأولوية للقدرات والمهارات على حساب الشهادات والمؤهلات، وتستقطب باحثين شباباً تلقوا تعليمهم في الجامعات الصينية.

وأشار إلى أن الشركة تمنح هؤلاء الباحثين الشباب مساحة واسعة للاستكشاف والتجريب، وتتيح لهم حرية ارتكاب الأخطاء والتعلم منها. وتابع: «الابتكار في معظم الأحيان يأتي بشكل تلقائي وطبيعي – فهو ليس شيئاً يمكن تخطيطه مسبقاً أو تلقينه بشكل متعمد».

وتتميز «ديب سيك» باعتمادها على نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، وأبرزها نموذج «لاما» الذي طورته شركة «ميتا»، وذلك خلافاً لمنافسيها مثل «أوبن إيه آي» و«جوجل» اللتين تفضلان استخدام نماذج مملوكة خاصة بهما.

وفي سعيها نحو تطوير الذكاء الاصطناعي العام، تركز الشركة جهودها حصرياً على معالجة اللغة، بدلاً من اتباع النهج متعدد الوسائط الذي يشمل التعامل مع الصور والصوت والفيديو.

وأضاف ليانغ: «ما نعتبره (تفكيراً) قد يكون في حقيقته عملية نسج للغة يقوم بها الدماغ. وهذا يقودنا إلى افتراض أن الذكاء الاصطناعي العام المشابه للذكاء البشري يمكن أن يتطور من خلال نماذج معالجة اللغة».

وبفضل نهجها المركّز، طورت «ديب سيك» نموذج استدلال منطقي متقدماً بتكلفة أقل، وبدون قدرات حوسبة استثنائية، متفوقة على الشركات الأمريكية المنافسة. وكالعادة مع التطبيقات الصينية، أثار السياسيون الأمريكيون مخاوف تتعلق بالأمن والخصوصية.

بينما اتهمتها «أوبن إيه آي» بانتهاك محتمل لحقوق الملكية الفكرية. لكن بالنظر إلى الدعاوى المرفوعة ضد «أوبن إيه آي» بتهمة انتهاك حقوق نشر آخرين، قد تبدو هذه الاتهامات متناقضة.

ورغم توجس كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية من نموذج «ديب سيك»، سارع مجتمع المطورين لاستكشاف إمكانياته الواعدة. فتميزه في الاستدلال وتكلفته المنخفضة قد يوسع نطاق استخداماته، وهو ما انعكس في تصدر قائمة التطبيقات المجانية الأكثر تحميلاً على متجر «أبل» في الولايات المتحدة يوم الاثنين.

المفارقة أن نجاح «ديب سيك» قد يفيد الولايات المتحدة أكثر من الصين، حيث فرضت بكين قيوداً صارمة على القطاع الخاص منذ 2018، ما حد من نموه وقلص عدد الشركات الناشئة.

ووفقاً لـ«بيتش بوك»، تراجع تمويل رأس المال الاستثماري في الصين 37 % إلى 40.2 مليار دولار العام الماضي، بينما شهدت الولايات المتحدة ازدهاراً في هذا المجال.

لقد نجحت «ديب سيك» في زعزعة الثقة المفرطة لدى عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين، كما عززت حدة المنافسة العالمية وسرّعت وتيرة تبني أدوات الذكاء الاصطناعي.

وقد نشهد مؤقتاً انعكاساً للأدوار التقليدية، فنرى الصين تبتكر والولايات المتحدة تقلد. ويبقى السؤال: هل هذا مجرد طفرة استثنائية، أم أنه بداية لاتجاه طويل الأمد؟

انشر تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *